التعليم.. والأزمة الثقافية

فى حلقة نقاشية نظمتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة حول «التعليم المدمج» قال طارق شوقى، وزير التربية والتعليم، إن مشاكل التعليم فى مصر ثقافية ولا تتعلق بالمناهج، مضيفاً أن علاقة المصريين بالتعليم تنحصر بالشهادة وليس المعرفة. هذا الكلام صحيح فى جانب كبير منه، فعبر عقود طويلة تهافتت مسألة «التعليم من أجل المعرفة» أمام صعود فكرة «التعليم من أجل الشهادة»، تندر عادل إمام على هذه الحالة فى واحدة من مسرحياته الشهيرة بقوله «بلد شهادات صحيح»، وهى العبارة التى كان ينعى بها حظه ككاتب محام يرى أنه يفهم فى القانون أكثر من المحامى الذى يعمل فى مكتبه والحاصل على شهادة الحقوق.

لكن من المهم أن نلفت النظر إلى أن قيمة الشهادة قد تراجعت كثيراً خلال الفترة الزمنية السابقة، عادل إمام كان يصف بعبارته حالة مجتمع «الستينات» وبداية السبعينات، حيث كان للشهادة قيمة بالفعل، وكان الحصول عليها أداة للمعراج الاجتماعى والاقتصادى، وإحداث تحول نوعى فى حياة صاحبها، لكن الأمور اختلفت بعد ذلك، بسبب كثرة الحاملين للشهادات، بعد فتح فرص التعليم الجامعى أمام الجميع، والتزام الدولة بتسكين خريجى الثانوية العامة فى الجامعات والمعاهد، عبر مكتب التنسيق، بالإضافة إلى التزامها بتوفير فرص عمل للخريجين. كثرة العرض لا بد أن تفقد أى سلعة قيمتها (كل معروض مهان)، السوق المصرى الآن يزدحم بطوابير طويلة عريضة من حاملى الشهادات الجامعية، بل وشهادات الماجستير والدكتوراه، مقابل طلب شديد الضعف عليها، ورغم ذلك لم يزل الآباء والأمهات يصرون على فكرة «الشهادة»، وضرورة تحصيلها بأى صورة من الصور، يشهد على ذلك ما تتحمله الأسرة المصرية من عوامل استنزاف للدخل، بسبب ما تدفعه فى الدروس الخصوصية، طيلة رحلة التعليم حتى يحصل الأبناء على شهادات. «الولع بالشهادة» يعد مظهراً من مظاهر الأزمة الثقافية التى تضرب التعليم فى مصر، ويمكننا القول إنه يعكس الشق الاجتماعى من الأزمة، لكن ثمة شقاً مؤسسياً يستوجب التوقف عنده أيضاً.

الوزير يريد خلق طلب حقيقى على العلم والمعرفة، وهو هدف رائع ليتنا بالفعل نستطيع تحقيقه، لكننا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن صعود قيمة العلم والمعرفة فى حياة المجتمع يستوجب وجود طلب عليه، والسؤال هل يوجد طلب من جانب مؤسساتنا الرسمية والاجتماعية على العلم والمعرفة؟ ثمة مؤشرات عديدة تدلل على عدم وجود مثل هذا الطلب، لعل أبسطها حالة التردى التى تضرب مستوى الأداء بداخلها والتى يعترف بها الرسميون قبل الشعبيين، نعم لم يعد للشهادة -بمفهومها التقليدى- قيمة، وارتفاع معدلات طلب الأسرة المصرية عليها أمر غير مبرر، ويعكس أزمة ثقافية بالفعل يعيشها المجتمع، لكن من الضرورى الانتباه إلى أن الطلب المقابل على المعرفة لم يزل ضعيفاً، وهو أمر يعكس الجانب الآخر من المشكلة الثقافية التى يعانى منها التعليم فى مصر، والسر فى ذلك يرتبط بصعود أنواع أخرى من الشهادات التى لم تبرأ منها بعض المؤسسات بعد، مثل شهادات الواسطة والمحسوبية والقرابة العائلية والمجاملات الاجتماعية وغير ذلك من أمور تتصاغر أمامها قيمة المعرفة والكفاءة.

التعليقات