جوهر " مصر .. الغائب

لعله اعمق واقدم ما التصق بمصر من ادوار .. الدور الثقافي المصري او علاقة مصر بالثقافة .
" البوابة" التي اطلت من خلالها مصر علي  الدنيا ، عبر حقب تاريخها المتباينة و منذ حضارتها الاولي ، كانت بوابة جوهرها " الثقافة".. مصر التي اخترعت " الضمير " بحسب قال جون برستد صاحب " كتاب فجر الضمير .. اطلت باللوحة و الجدارية والنص .. المراقب للدور المصري او النفاذ المصري ، لو جاز التعبير ، بمعني  " التأثير " فيما حولها،  لن يحتاج للتيقن من ان "اجنحة مصر الثقافية" ، هي التي عبرت بها الي خارج حدودها .. و في المراحل الحديثة  من تاريخ الدولة المصرية ، كان الاساس لبناء دولة محمد علي ، اساس اعتمد علي الجوهر الثقافي في التأسيس ، بالمعني الواسع للثقافة ، فكان التعليم و ارسال البعثات و تغذية روافد المعرفة ، حجر الزاوية لبناء مصر الحديثة .. نستطيع الاستطراد فيما حققته مصر  تاريخيا عبر الثقافة والتعليم،  و المدي الواسع الذي احتلته الدولة المصرية من ادراك القيمة الحقيقية " للحضور المصري " ثقافيا ، و قد يكون من قبيل التكرار التوقف عند عناصر بعينها كالسينما والكتاب و الاغنية و المدرس .. تلك المقدمة التي قد يراها البعض بديهية ، ما عادت حاضرة في رؤية مصر لنفسها او لدورها .. ولقد استوقفني في لقاء، استضاف فيه الاعلامي عمر عبد الحميد ، الاستاذ ياسر رزق رئيس مجلس ادارة اخبار اليوم ، انه بشرنا باستشرافه ان المرحلة القادمة سوف تشهد نوعا من الاهتمام " بقوة مصر الناعمة " في اشارة علي ما اعتقد الي اهمية المكون الثقافي المصري الذي يعيش حاليا فترة من الشحوب والبهتان ، رغم ان مشاكل مصر العويصة في لبها ، مشاكل جذورها  ثقافية ، ابتدأ من الارهاب والتطرف و حتي الوجهة الاقتصادية الواجب اتخاذها .  الالتفات الي اهمية دور الثقافة تأخر ، من وجهة نظري المتواضعة ، بل لعله كان بمكن ، لو تم الانتباه له في الوقت المناسب ، و بالقدر والرؤية المناسبة ، ان يعفي مصر من كثير من سوء الفهم الذي عانت وتعاني منه بالذات علي مستوي الخطاب مع العالم ، او التخاطب مع العالم لشرح حقيقة مواقفها ..المشكلة ان الثقافة تكاد ان تكون محاصرة داخليا في حيز يتسم بالضيق في الفهم والتهميش تقريبا .. لا تجد من يراها باعتبارها  الصناعة الثقيلة القادرة علي تغيير نسيج البشر ، لو كنا مدركين لفداحة هذا التهميش لكان الاستثمار في بناء قاعدة كقصور الثقافة ، المهمة الاولي في حربنا ضد التطرف ،و لكان علي رأس الاولويات  و لوقفنا بحسم في مواجهة هذا الانشطار الاعلامي بين  السطحية والتفاهة من جهة وبين رقائق السلفية المتغلغلة في ثنايا بث تلفزيوني يكاد يخاصم " الثقافة " .. انت تسمع عن برناج ، تقدمه واحدة من المطربات ، في منتهي الركاكة ، يكلف محطته التلفزيونية المصرية مائة وخمسين مليون جنيه .. كم  " رأس" كان يمكن ان تستعدلها و اي قدر من نور الثقافة كان يمكن ان تغير به قري ومدن  في مصر ، و ان تعيد ترتيب عقول  فقدت اواصرها مع مصرو دخلت في غياهب لا يعلمها الا الله  ، لو انفق هذا المبلغ او نصفه او حتي ربعه ،  لو كان الانفاق علي بنية ثقافية ؟ المشكلة  ان التوجه الان في  المجتمع والدولة يقوم  نظرة  للثقافة ، باعتبارها  اقرب  الي " نقطة زيت" في طبق الماء .. شأن يخص اصحابه ، وفي معظم الاحوال يمكن الاستغناء عنه .. علي عظم الملايين و ربما المليارات التي يتم انفاقها علي المحطات التليفزيونية في مصر ، لا يوجد برنامج واحد ، يمكن ان يجلس المتلقي امامه ، ليستمتع اولا ، لان المعرفة والثقافة ليست تعذيبا و ثقل ظل ، و يفكر او يعرف او يحرك افكاره ، او " يصنفر " وجدانه .. بينما في فرنسا علي سبيل المثال تحتل برامج الكتب الممتعة فترات السهرة ، برامج صنعت نجوما يجري الناس وراءهم بالاوتوجرافات ، و لم يكن الامر بعيدا عن التلفزيون المصري الابيضو اسود ، و تابعوا حوارات اللمتعة والمعرفة علي ماسبيرو زمان و تأملوا تكوين سلوي حجازي و سميرة الكيلاني و اماني ناشد، كيف تتحول المعرفة الي متعة في سجالات فكرية مع العقاد وطه حسين وعبد الرحمن الشرقاوي . تتلمذت  في دراستي العليا ، تمهيدي ماجستير،  علي استاذنا الدكتور ذكي نجيب محمود ، الذي كان يسكن علي نيل كوبري الجامعة ، و كنا نستمتع في مصاحبته سيرا علي الاقدام ، بعد الدرس ، من جامعة القاهرة حتي بيته . اتذكر انه في احد الايام توقف عن السير ليشرح العلاقة بين بناء" الوجدان السليم "والقدرة علي الاختيار الرشيد ، في كل شئ .. التسمم بالجهل او بالمواد المفسدة لللذوق العام ، يضلل اختيارات المرء في الحياة ، من السياسة وحتي لعب الكرة .. علي مستوي المهنة في الصحافة مثلا ، اضعف الكوادر يتم نفيها الي الصحافة الثقافية ، باستثناء التجربة التي قدمتها " اخبار الادب" في اختيار وتنمية عناصر مهنية من الفرز الاول ، و اول الصفحات المرشحة للالغاء عند اي طارئ ، هي صفحات الثقافة .. علي ايام الدكتور لويس عوض كان الملحق الثقافي لحريدة الاهرام ، هو ما ندخره و نحتفظ به علي من اسبوع لاخر .. احد الاصدقاء من سفراء وزارة الخارجية اعد رسالة دكتوراة حول دبلوماسية الثقافة .. حين اطلعت علي الرسالة ملأني وجع القلب .. كيف لا نعي مكمن القوة ونتفنن في اهداره ..  كيف تخل الزيارات الرسمية مثلا الي فرنسا او ايطاليا او امريكا من الرسالة الرسالة الثقافية و كيف يتجمد الوضع عن " الموظفين " المعينين كمستشارين  ثقافيين بمعايير الاعارة الي البلاد العربية ؟  المكسيك وضعت اكتافيوباث سفيرا لها في اليونسكو ، شيلي اختارت لنفس الموقع الشاعر بابلو نيرودا و البرتغال كان شاعرها نينو جوديث مستشارا ثقافيا لها في باريس .. كيف تعاملنا نحن في هذه السياق!!؟ الاستثناء الوحيد كان توفيق الحكيم عندما ارسله عبد الناصر في الخمسينات الي اليونسكو ، لكن الحكيم اختار طريقه ..
الثقافة ليست وردة في عروة جاكيت ، نضعها و قت الحاجة .. الثقافة " رؤية " .. صناعة ثقيلة مسئولة عن اثمن ما تملكه اي دولة ، عن صناعة العقل والوجدان ، و هذا ليس ترفا لكنه الجوهر "، و خاصة لمجتمع آفاته الاجتماعية  والسياسية اخطر بكثير ، من ان يقتصر التعامل معها بموجب "الموظف المختص".. لسنوات قاربت من العشر ولظرف خاص اتيح لي احتكاكا معقولا بمدينة مثل نيويورك .. نيويورك تضم ما لا يقل عن ثلاثمائة ثقافة و رقم يتجاوزه من الجنسيات ..، و هي تمتلك تجربة شديدة الخصوصية في التعامل مع " الاخر" و هو موضوع طويل الخصه في كونها تعاملت مع اي مفرد ثقافي باعتباره " اضافة "، مكسب يضيف الي نسيجها ، و هي تفعل ذلك مع كل عناصر الثقافة ، من المطبخ  الي الكتاب ، و من قفة الخوص الافريقية الي اللوحة .. مئات الشرايين من كل الدنيا مدت الجسور الي قلب المدينة الوعرة عبر الثقافة .. كل مرة كان فيها حضور مصري رسمي كنت اعيش نوعا من احلام اليقظة ، باستحضار حضور ثقافي مصري ، من اي نوع ، يرطب ويمهد و يساعد و يقدم جوهر مصر الحقيقي الذي اطلت به علي دنيا منذ فجر التاريخ .. لكنها كما قلت احلام يقظة !

( من صفحتها )

التعليقات