الغش «أسلوب حياة»

نعم هو كذلك، الغش لدى كثير من أبناء هذا المجتمع أسلوب حياة، ورغم أهمية وجود قوانين تردع الغشاشين، فإن القانون وحده لا يكفى. أقول ذلك بمناسبة الجدل المثار حالياً حول مشروع قانون «الغش فى الثانوية العامة»، الذى ناقشته اللجنة التشريعية بالبرلمان ووافقت على العقوبات التى ينص عليها. لست بحاجة إلى تذكيرك بأن الغش ليس موضوعاً للامتحانات فقط، فهناك أشكال مختلفة للغش تسيطر على واقع المعاملات والتعاملات فى مصر، فهناك الغش الاقتصادى والغش التجارى والغش الدينى والغش الثقافى والغش السياسى، كل ممارسة فى حياتنا عرضة للغش. ولو أن قانون «الثانوية العامة» طبق وحده، بما يلزمه من عدالة وصرامة، فإن كل سجون مصر لن تستطيع استيعاب من سيتم محاكمتهم. هذا فى بند واحد من بنود الغش، فما بالك لو طبق القانون على الغشاشين فى كافة المجالات، أتخيل أن مصر وقتها ستتحول إلى سجن كبير!

لست ممن يقللون من أهمية القوانين ومن قدرتها على الردع، لكننى أجد أنها لا تكفى بمفردها لمواجهة ظاهرة معقدة، مثل ظاهرة الغش. الغش فى المدارس له أسبابه الاجتماعية المتنوعة لعل أبرزها تراجع قيمة الاجتهاد أمام قيم الفهلوة والحصد السريع، التلميذ فى مصر تربى على ثقافة «ليه تدفع أكتر ما دام ممكن تدفع أقل؟!». كيف نطلب من تلميذ يعتمد على «المذاكرة بالوكالة» من خلال درس خصوصى أو مجموعة تقوية أن يرى للجهد أى قيمة؟! لماذا يذاكر أصلاً وهو يعلم أن الكلمة العليا داخل لجان الامتحانات لـ«الغش»؟، الغش الذى يرعاه ولى الأمر والتلميذ، والمدرس والفراش، بل أحياناً بعض الموظفين فى وزارة التربية والتعليم، والواقع الافتراضى والواقع المعيش. عندما يفهم هذا المجتمع أن «الاعتراف بالفشل» فضيلة، فوقتها سينجح فى مواجهة «الغش».

«كله بيتساوى، وطولها زى عرضها».. هذه عينة من العبارات التى تتردد على ألسنة بعض المصريين، وتعكس تحقيراً لقيمة التميز. وهى حالة نشأت ونمت فى ظل واقع مؤسسى ليس لديه طلب على العلم أو التعليم الجيد أو تميز القدرات، تماثل طلبه للواسطة والمحسوبية والرشاوى، وغير ذلك من أمور نعلمها فى مؤسساتنا. التلميذ يغش -حين يغش- وهو يعلم أن مصيره ليس مرتبطاً بالشهادة أو المجموع الذى سيحصل عليه قدر ما هو مرتبط بقدرة عائلته على «زقه» فى موقع متميز أو وظيفة يحصل منها على الشىء الفلانى. وللأسف هذا الصغير الغشاش أكثر وعياً من غيره بالواقع الذى يعيش فيه.

الحكومة التى أعدت مشروع قانون «الغش فى الثانوية العامة» هى فى ذاتها سبب من أسباب انتشار ظاهرة «الغش فى الامتحانات»، لأنها أحياناً ما تغش المواطن. هى تغشه عندما تعده بخفض الأسعار، فإذا هى تزيد، وتغشه حين تعده بأن تعويم الجنيه سيؤدى إلى خفض سعر الدولار، فإذا به بعد التعويم يحلق فى السماء، وتغشه حين تجعل من الولاء أساساً للاختيار وهى تشكل لجانها ومجالسها، دون وضع التميز فى الاعتبار. المواطن الغشاش يرقص.. مثلما ترقص الحكومة!

التعليقات