عن " البلطجة "وتجلياتها .. ودلالاتها

 

استطيع ان احدد تاريخا بعينه ، و حادثة محددة ، "كانا " بمثابة الرمز ، لنقطة تحول.. ليس في الاقتصاد ولكن في المنظومة القيمية التي كانت تحكمنا وتضمن ، للافراد والمجتمع ، حدا يسود فيه القانون وولا تضيع فيه هيبة الدولة .. كنا منتصف السبعينات علي ما اذكر .. دخل " وكيل وزارة" محترم ، بكياسة وهدوء ، الي واحد من المحلات التي تبيع " المستورد " بشارع الشواربي .. ايامها كان هذا الشارع شبه متخصص في بيع البضاعة المستوردة " التي فتحت لها الابواب، سواء باستيراد رسمي او تهريب ، بحجة ارضاء الشعب الذي طال حرمانه ايام عبد الناصر ( هكذا فسر السادات ايامهاالانفتاح السداح مداح الذي كان اول معول لضرب الصناعة والاقتصاد الوطني ) المهم نعود الي السيد وكيل الوزارة الذي اراد شراء قميص .. لم يكن هناك في شارع الشواربي اي تسعير او رقابة للدولة - وهذا بالقياس لتلك الايام ، كان استثناء - كل تاجر يضع السعر الذي يراه .. المهم .. مشادة او جدل ، خرج خلاله التاجر ، صاحب محل شارع الشوربي ، عن الاصول .. والعرف الذي كان ، "سب "المشتري .. ضرب وكيل الوزارة.. سقط وكيل الوزارة "قتيلا " . اول شهيد لاختراق القانون او للبلطجة ...ايامها قامت الدنيا ، دون مبالغة .. واعتبر الامر ، او صور علي انه بداية لعصر " البلطجة " ، وعلي ما اتذكر ان مجلات وصحف اصدرت اعدادا خاصة ، حول الواقعة التي تهدد ببزوغ عصر تسود فيه البلطجة ، ويخرج منه هيبة القانون والدولة ، وكان علي الرأس من هذه الاصدارات مجلة "صباح الخير " ، التي كنت اعمل بها وشلركت في العدد الخاص الذي راح يحذر من دلالات واقعة مقتل المواطن ، "ببلطجة" تاجر .. ، واعتقد ان الواقعة نفسها كانت نذيرا لانقلاب قيمي ، ورفع شعار " انتبهوا ايها السادة " ! مابين تاريخ "واقعة شارع الشواربي"، و مشهد مقتل شاب، عام ٢٠١٧ ، كان بصحبة " خطيبته " يشاهدان في مقهي بمصر الجديدة مبارة نهائي كاس افريقيا ، و اغلاق صاحب المقهي الابواب ، ليحاصر "الزباين"، ويضمن انهم سوف يدفعون " المبنيمم شارج" ، ثم الاعتداء بالضرب ثم السلاح الابيض علي الشاب ، لانه اعترض ، علي اجراء ، رآه غير ملائم ، او اراد ان تخرج خطيبته ، او .. او ، اقول ما بين الواقعتين ، اربعة عقود ، تقريبا تحول الامر خلالها، من مجرد" استثناء "يثير فزع المجتمع ، ويقلقه ، الي تجليات يومية لا تقتصر لا علي فئة اجتماعية ولا علي سن ، لا علي الناس ولاعلي اجهزة ، ساد ت " البلطجة " ولم يعد يحدها شئ .. " صارت "البلطجة" ليس مجرد بحث عن حل ، بل صارت اسلوب حياة .. ولا مبالغة .. في الموضوع .. كما لم تعد البلطجة اسيرة " لصورة ، او لنموذج بعينه ، انما وبضمير مستريح ، البلطجة التي جاءت محصلة في البداية ، اواسط السبعينات، لاستشعار بداية وهن تنفيذ القانون ، او استشراف ان "القوة " ، الناجمة عن نفوذ الفلوس او السلطة ، قادرة علي ان تحل محل القانون ، صارت في حد ذاتها وعلي مدي الغقود الاربعة ، هي القانون .. صحيح ان القانون تحرك في واقعة مقتل شاب مصر الجديدة وبسرعة ، ولكن هذا شئ والسياق العام الذي يكتوي به المجتمع من ممارسات صارت البلطجة فيه اسلوب حياة ، شئ اخر .. البلطجة واستخدام العنف، لا يمكن حصرهما في واقعة كواقعة مقتل شاب مصر الجديدة ، بل ان تجليات البلطجة اتسع نطاقها الي مدي يصعب حصره ، وتعددت تجلياته بحيث صار هناك استحالة علي الاشارة اليه وتحديده .. هناك بلطجة واضحة وصريحة تمارس علي المواطن الذي في الاغلب الاعم ، اصبح يؤثر النجاة ، متنازلا حتي حقه ، وهناك انواع من البلطجة المستترة ، او "الشيك"، التي ليس بامكان نفس المواطن حتي ان يفكر في مجابهتها .. " بلطجة العنف الصريح " ، يمكننا التعرف عليها وبالاستطاعة ان يتكتل الراي العام ويصبح ، عاملا مؤثرا ، في الضغط ومواجهتها ، لكن ، الكارثة الفعلية فيما لا يتبدي ، في المستور ، والمتواري ، في انواع من البلطجة التي تسحق القانون او التي سحقت القانون وتراكمت حتي صارت امرا عاديا ، البلطجة التي قننت الفساد وتجذر معها حتي صار سرطانا .. كل غياب في تطبيق القانون ، معناه بزوغ لقانون "البلطجة ".. الاختفاء " تقريبا" ، لكل اوجه الرقابة ، من التعليم للعلاج للاكل ، للسكن .. اليس هذا انتصار ضمني للبلطجة ؟ اجتياح الاسعار و دون تدخل فعال من المسئول ، اليس هذا نوعا من البلطجة ؟ الاوتوبيس الذي يسير بدون فرامل ، ولا تمارس علي الشركة التي تسيره رقابة ولا يطبق عليها قانون : بلطجة ، الذين يحتكرون قوت الناس ، ولا تجابههم الدولة : بلطجة ، الاجهزة المعنية المتواطئة والتي لا تري غير "الموظفين " والطبقة المتوسطة ، معينا" تحلبه "تاركة ممارسات مالية ، ، وفئات اجتماعية ، دون مساس ، .. التغاضي من الدولة عن الممارسات التي يتعرض لها اقباط مصر .. وتحويل الامر الي اعراف وصلح ..
" كل تصرف ، صغر او كبر ، نغض فيه البصر عن تطبيق القانو ن ، هو بطريقة مباشرة او غير مباشر ة ، اسهام في تدعيم " البلطجة " ،( السكوت ، علي سبيل المثال ، حتي يسقط قتيل ، لتخرج قوات الامن تفتش علي مقاهي مصر الجديدة وصحة تراخيصها ، مشهد صار روتينيا ، اترك تأويله لكم ) والتعليق او الكلام عن : اين كان الامن ، واين واين ..
صحيح انالبلطجة تصل الي اعلي درجاتها ، بسلب حياة الناس .. بالقتل .. لكنها " ليست سوي محصلة ، لوئد القانون ، والتوقف عن تطبيقه علي مدي زمني .. و اذا كانت البلطجة ، "لا تنحصر " في الامساك " بالمطواة .. و ان كان الامساك بالسلاح يمثل واحدا من تجلياتها " الذروي" ، لكن المؤكد انه ليس الوحيد .. ولا انها تقتصر علي شكل دون اخر ، ولا علي جزء مجتمعي بعينه ، وان ادارة الدولة احيانا ، ظهرها ، لتطبيق القانون لا اقول فقط يدعمها ، بل يؤسس لشرعيتها . 
التعليقات