حراس على شيء لن يسرقه أحد!
نعاني من التضخم الشديد لمشكلة الهوية. نلاحظ ذلك من عناوين الندوات والمؤتمرات من نوعية الحداثة والهوية أو التعليم والهوية أو التعليم والهوية أو أي شيء آخر على هذه الشاكلة. ونقول تضخما لأننا من خلال متابعتنا للأمم التي نتابع موضوعات الجدل فيها لا نجد الموضوع مطروحا بهذه الغزارة والإلحاح. وفي كل السجالات التي تتعلق بالهوية نجدها تُطرح على أنها جوهر ثابت ورثناه من الماضى ومهمتنا اليوم هى حمايتها والذود عنها. وإنطلاقاَ من هذا التصور يتم التعامل مع كل تجديد على أنه تبديد أو تهديد. أما نحن فيتم إختزالنا إلى مجرد حراس ليس لهم حق إضافة أى شىء.
هذا تصور خانق لكل صور الإبداع. فقد جرى النظر عند دخول فن المسرح والرواية والسينما والشعر الحر إلى ثقافتنا الحديثة على أنه عدوان على الهوية لأنها أنواع أدبية وفنية لا تنتمى إلى تراثنا. ومازالت حتى الآن بعد هذه العقود الطويلة من تلقيها ومن إبداعنا فيها المعترف به عالمياً تتعرض لمثل هذه الحملات من الإدانة.
يضاف إلى هذا الاستخدام لمفهوم الهوية الهادف لكبح جماح الإبداع استخدام آخر ذرائعي وسياسي يهدف إلى الحفاظ على الأمر الواقع. في بداية القرن العشرين بدأ بعض رجال الأعمال المصريين يقبلون على الصناعة وتم تأسيس البنوك وبورصة للأوراق المالية وقوبل كل ذلك بترحاب، ولكن ما أن بدأ عمال مصنع الدخان في القيام بإضراب للمطالبة بزيادة الأجور حتى بدأت كل الصحف والأحزاب في اتهام العمال المصريين بأنهم يقلدون عمال أوروبا تقليد القرود ويحذرونهم من التقليد الأعمي ومن الممارسات التي تخالف خصوصيتنا. وصارت حجة الهوية أو الخصوصية تبرز دائما في وجه من يطالبون بحقوق المرأة وبالديمقراطية وبحقوق الانسان وبتنظيم النسل. الهوية إذن بوصفها مجموعة من الخصائص الموروثة من الماضي يجب الدفاع عنها هي ليست إلا تواطؤاً مع الاستبداد.
الخوف على الهوية من التهديدات الخارجية يؤدي إلى إثارة صور من الرُهاب والهواجس الجماعية. فقد كنا ندرس أن الحروب الصليبية هي حروب هدفها الحقيقي هو السلب والنهب ولكن الدين ليس قناعا ايديولوجيا يخفى أغراض الغازي المادية. اليوم ينقلب التحليل تماما فالحديث عن وضع اليد على منابع البترول أو مناجم اليورانيوم أو إنشاء قواعد عسكرية يُقدم لنا على أنه مجرد قناع والغرض الحقيقي من الغزو هو القضاء على الدين.
عرفنا بلادا كانت متخلفة عن أوروبا في بداية القرن العشرين ولكنها سعت إلى توطين الحداثة فتقدمت بل وتجاوزت أوروبا مثل اليابان، وبلادا أخرى خلال بضعة عقود تحقق قفزات عملاقة، مثل الصين والهند وكوريا والبرازيل وفيتنام، لكننا لم نسمع أن بلداً من هذه البلاد تأسى لهويتها التي فقدتها ولا نستطيع نحن أن نشير إلى بلد فقد هويته بينما يمكننا أن نشير إلي بلاد ظلت أسيرة لماضيها. ولم نسمع في أي لحظة أن دين السكان في هذه البلاد كان معرضا للخطر أو أنهم اضطروا إلى ان يستبدلوا به دينا آخر. كل ما في هذه البلاد تغيّر نمط الانتاج والانتقال من الزراعة إلى الصناعة وطريقة الادارة السياسية للمجتمع وتبدل النظام التعليمي ولم تتغير عقائد السكان. هناك تغييرات تقتضيها عملية التحديث، أما تغيير عقائد السكان فلا ضرورة له. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدين لا يتعارض مع الحداثة، ولا الحداثة تخاصم الأديان. وهكذا فالقلق على الهوية، إن كان صادقاً، فهو هواجس متخيلة، وإن كان غير صادق فهو تحايل للإبقاء على الأمر الواقع وإدامة الاستبداد.
هوية أى شخص ليست هى ماضيه بل هى حاله الذى هو عليه هنا والآن. وعلينا أن نرصد ونعترف بمظاهر الخلل والنقص فيها قبل أن نحنفي بقدراتنا ومواهبنا. وهذا ما يجعل هويتنا مفتوحة على المستقبل.
ويرى جان بول سارتر أن ماهية كل شىء تتحدد قبل وجوده ماعدا الإنسان فإنه يوجد أولاً ثم تتحدد ماهيته بعد ذلك، وهو ما يعنى أن الهوية تظل دائماً مشروعاً للمستقبل وتبقى أبداً غير مكتملة. ولهذا نجد الشعوب التي تقدمت تحتفي بالأبطال الذين واجهوا بشجاعة هوية شعوبهم المورثة وقادوهم إلى بناء هوية المستقبل. وفى إطار هذا المفهوم لا نعود حراساً للهوية بل نصبح نحن صناعاً لهويتنا وفاعلين فى بلورتها. إن صناعة الهوية مسئولية أكثر من حراستها. وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم.
* عن الأهرام
