ذكريات لندنية.. وفنانون من مصر

إنها ذكريات فنية من العاصمة البريطانية، فلقد هبطت بى الطائرة أنا وزوجتى فى مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية يوم الحادى والثلاثين من أغسطس عام 1971، ولم أكن قد سافرت قبلها بالطائرة إلا رحلة واحدة إلى العاصمة الجزائرية عام 1966 فور تخرجى فى الجامعة وإيفادى ممثلًا للشباب المصرى فى المؤتمر الكبير للشبيبة الجزائرية والاحتفال بنقل رفات الأمير عبدالقادر الجزائرى من دمشق إلى وطنه فى الجزائر، ولقد بهرتنى الحياة فى العاصمة البريطانية بشكل غير مسبوق، ووجدت أن أبعاد الحرية الملتزمة مفتوحة تمامًا أمام البشر وأن قيمة الإنسان أعلى بكثير مما تركته فى بلادى، وكان أول عمل لى فى العاصمة البريطانية هو نائب القنصل وكنت فى منتصف العشرينيات من العمر شابًا يتطلع إلى العمل ويتهيأ أيضًا لدراسة الدكتوراه فى نفس الفترة، وكانت قنصلية مصر العامة تقع فى قصر جميل فى شارع محظور المرور فيه إلا بإذن، لأنه كان يقع فى إطار المخصصات الملكية ويضم مجموعة من القصور الرائعة لبعض الملوك والحكام من أنحاء العالم، وكان من ضمن اختصاصاتى القنصلية الإشراف على علاج المصريين الذين توفدهم الدولة للمستشفيات البريطانية على نفقتها، وكان من بينهم الفنان القدير صلاح منصور الذى أوفدته الدولة لعلاج ابنه خصوصًا أنه كانت تربطه صلة طيبة بالرئيس الراحل أنور السادات، وأتذكر بعد ذلك أنه فى أول زيارة للرئيس المصرى الجديد إلى لندن احتشد أبناء الجاليتين المصرية والعربية للتعرف على ملامح شخصية الرئيس السادات وتوجهاته السياسية، وعند قرب انتهاء الحديث وقف صلاح منصور وقال له: أريد مدًا لفترة علاج ابنى فى لندن فأومأ الرئيس السادات برأسه موافقًا وقال له: يمكنك أن ترى السيد فوزى عبدالحافظ سكرتيرى بعد نهاية اللقاء، فرد صلاح منصور قائلًا: ومن قال إن هناك من يرد على مواطن بعد تحرك الرئيس من زيارته، لن يقابلنى أحد إذا انتهى الاجتماع وغادرته ياسيدى الرئيس دون أن توقع لى قرارًا لمد العلاج، وضجت القاعة بالضحك ونادى الرئيس على الفور سكرتيره ووقع على ورقة بالمضمون الذى يريده الفنان القدير الذى كان يحبه السادات ويحترمه، فهو العملاق الفنى الذى مثل دور العمدة فى فيلم «الزوجة الثانية» وهو أيضًا الذى تقمص شخصية إمام اليمن يحيى حميد الدين فى فيلم أنتجته السينما المصرية وجرى عرضه فى حفل خاص حضره الرئيسان جمال عبدالناصر وعبدالله السلال رئيس جمهورية اليمن، وعندما كان يظهر صلاح منصور على الشاشة مجسدًا شخصية الإمام اليمنى كان السلال يفزع من مقعده ويمسك بيده عبدالناصر ويجلسه مرة أخرى فى مكانه، لأن درجة إتقان صلاح منصور لدوره فاقت كل خيال، وأتذكر ذلك الفنان الراحل وهو يجرى نحو فرع البنك القريب من القنصلية ليصرف شيك العلاج قبل أن يطلب منه إعادة ما تبقى، فقد كان فنانًا متسع الأفق يوحى دائمًا برمزية القوى الناعمة فى مصر الحديثة، ولقد سعدت بما كتبه الكاتب الصحفى أحمد السماحى فى الأهرام عن عشق صلاح منصور لتلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل وهو أمر أشترك معه فيه بكل حماس، أما المشهد الثانى الذى أريد أن أتحدث عنه فهو أن فنانة مصرية كبيرة جاءت إلى القنصلية فرحبت بها كما قيل لى باسم زوزو هانم، وأبدت هى من جانبها سعادة بأن شابًا مصريًا صغيرًا هو القنصل فى لندن، وقالت لى: هل تعرفني! قلت: نعم من الذى لا يعرفك، فقالت: من أنا، قلت: وهل هناك من لا يعرف شهرزاد ألف ليلة وليلة فاستغرقت فى الضحك قائلة: لقد اكتشفت عدم معرفتك بى أو بغيرى لأنه ليس لك فى السينما والتليفزيون على ما يبدو، فأنا زوزو ماضى ولست الزميلة الفنانة زوزو نبيل، وقتها شعرت بالخجل، وما أكثر النوادر التى كانت تحدث فى تلك الفترة مثلما ظهر بالقنصلية شاب صغير مع أحد أقاربه وقيل لى إنه الفنان هانى شاكر ولم أكن أعرفه بالطبع وقيل لى وقتها إنه فنان جديد ينافس عبدالحليم حافظ فى عصره، وذات مرة ذهبت إلى أسرة مصرية عائدة من القاهرة ومعهم خطاب لى، فتحت لى صاحبة البيت الباب ووجدت فى مواجهتى سيدة بدينة تبدو فى نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات من العمر فقالت لى المضيفة: هل تعرف هذه السيدة، قلت لها: لا، قالت: إنها الفنانة الكبيرة ليلى مراد، فأبديت أسفى لأن شكل ليلى مراد قد تغير فردت على بمقطع من إحدى أغانيها قائلة: (أنا زى ما أنا وأنت اللى بتتغير)، وتطورت علاقتى بتلك الفنانة الراحلة أثناء وجودى فى لندن وكانت تستشيرنى فى دراسة ابنها زكى فطين عبدالوهاب خصوصًا أنه كان متعلقًا بفرع جديد هو الحاسب الآلى أو الكمبيوتر بوظيفته الحالية.
 
هذه بعض خواطر عابرة مع فنانى مصر وهم جزء من رصيد قوتها الناعمة فى كل وقت والوجه المشرق للوطن فى كل مكان وزمان.
 
المقال/ د.مصطفى الفقي
بوابة الأهرام
التعليقات