إلى من يهمه الأمر.. من أجل إصلاح المنظومة الصحية فى مصر

أستطيع القول، بكل صراحة وأسف، إن المنظومة الصحية فى مصر باتت مهترئة، وتحتاج إلى ثورة إصلاحية تشمل كل عناصر الصحة، ولا تكتفى فقط بالمبادرات الرئاسية الصحية، التى كانت بمثابة إنقاذ سريع وإصلاح ما يمكن إصلاحه لتجنب حدوث انهيار وشيك لهذه المنظومة، ومما زاد الأمر سوءا ما كنت قد أشرت إليه، أكثر من مرة، عن هجرة شباب الأطباء الكارثية إلى الخارج، التى أدت إلى أن يكون هناك 5 أطباء فقط لكل 10 آلاف نسمة، بعد أن كانوا 11 طبيبا فى عام 2014 فى حين أن منظمة الصحة العالمية تقترح 45 طبيبا وممرضا لكل 10 آلاف نسمة!.. وقد وصلتنى رسالة مهمة حول هذا الموضوع من الصديق العزيز أ. د أسامة حمدى، ابن المنصورة، والأستاذ بجامعة هارفارد، والمهموم دوما بقضايا الصحة فى بلده الأم، وقد عرض فيها نماذج متميزة من الأنظمة الصحية العالمية التى عاشها وعاينها بنفسه فى زياراته المتكررة لبلدان العالم، وإلى نص الرسالة:

(من المعروف أن نهضة الأمم المتقدمة ترتكز على نظام صحى متكامل وأمان صحى متقن.. ولذا لا تدخر هذه الدول جهدا فى تطوير أنظمتها الصحية والصرف عليها بسخاء، ويشكل الطبيب الجيد أهم عناصرها، وقد أدركت هذه الدول المثلث المثالى الذى يخرج لها أفضل الأطباء، وهو يتكون من ثلاثة أضلاع:

الأول هو التعليم الطبى الحديث المتقن الذى يتطلب فى البداية الاختيار الصائب لطالب الطب الذى لا يجب أن يعتمد فقط على مجموعه فى الثانوية العامة، بل يجب أن يكون هناك اختبار قبول يختبر قدراته العلمية والنفسية على ممارسة هذه المهنة شديدة الخصوصية، بالإضافة إلى العودة إلى السنة الإعدادية التى كان معمولا بها منذ سنوات طويلة لإعداده بالمواد العلمية المؤهلة لدراسة الطب، كما يجب أن يبدأ التدريب الإكلينيكى منذ اليوم الدراسى الأول، معتمدا على الفهم والإدراك والتحليل السليم وليس الحفظ والتلقين.

والضلع الثانى هو التدريب المستمر وفق خطة محددة فى مستشفيات مجهزة جيدا، وتفعيل عمل اللجان القومية المتخصصة.. ثم يأتى الضلع الثالث وهو توفير المناخ الملائم لعمل الطبيب، وبأجر يتناسب مع مهمته الثقيلة، وبما يضمن له ولأسرته الحياة الكريمة ويغنيه عن البحث عن عمل آخر أو طريق آخر للتربح..

وسوف أتحدث عن بعض أمثلة المنظومة الصحية المتميزة التى عايشتها فى بعض البلاد:

1- فى كوستاريكا: نجحت كوستاريكا، فى أمريكا الوسطى، فى تطبيق أفضل النظم الطبية فى الأمريكيتين لدرجة سفر أكثر من 800 ألف من المرضى فى الولايات المتحدة سنويا للعلاج هناك، وقد بدأ هذا النظام منذ عام 1949 بإدارة هيئة للتأمين الصحى الوطنى تمتلك جميع المستشفيات الحكومية والجامعية، ويعتمد النظام على دفع جميع العاملين بالدولة والقطاع الخاص بمقتضى القانون 7- 11% من الدخل الشهرى إلى الهيئة، وبالنسبة للطبقات الفقيرة تدفع الدولة الحد الأدنى «7%» بالنيابة عنها.. والكشف والفحوصات والعلاج كلها بالمجان، بما فيها علاج الأسنان والعيون، وتحدد الهيئة طبيب رعاية أولية لكل مواطن، ويحدد له نسبة من المرضى حسب تعداد السكان، ولا يمكن للمريض العرض على الإخصائى أو الاستشارى دون تحويل من هذا الطبيب.. كما تدير الهيئة نظام تأمين خاصا، يسمح للمريض باختيار طبيبه ويغطى 80% من أجر الكشف فى العيادات والمستشفيات الخاصة.

2- فى سنغافورة: هو من أفضل الأنظمة الطبية التى رأيتها بعينى وفيه يدفع المواطن 18- 20% من دخله الشهرى، وتدفع جهة عمله مبلغا مماثلا تماما فى صندوق خاص باسم المواطن ويقسم إلى 3 أجزاء: جزء للعلاج الطبى وآخر يستخدم كادخار يستعمله لدفع مقدمات السكن أو فروق العلاج، والجزء الثالث هو فقط للمعاش، ولا يمكن الصرف منه، وبذلك تفرغت الدولة بميزانية الصحة لبناء مستشفيات على أعلى مستوى وتركتها لقطاع خاص محترف يديرها كمؤسسات غير هادفة للربح، وجميع المستشفيات مقسمة إلى أنواع حسب مقدرة المواطن، لكن العلاج فيها ومرتبات الأطباء تأتى مباشرة من صناديق المرضى التأمينية بفاتورة كالقطاع الخاص تماما.. ولا يدفع المريض ثمن السرير واستخدام الأجهزة، لكنه يدفع مصاريف الخدمة العلاجية من صندوق الادخار الخاص به.. وبالنسبة للفئات المحتاجة وغير القادرة تدفع الدولة النسبة المقررة للعلاج فى حدها الأدنى «18%».. وقد نجحت سنغافورة نجاحا هائلا رغم ابتعاد نظامها عن النظام الاشتراكى فى إدارة المنظومة كما فى أوروبا.

3- فى تايوان: النظام الذى تتبعه تايوان فريد من نوعه، حيث يجمع بين النظام الاشتراكى الصينى والنظام الحر الغربى، لكنه يخفف بشدة من تكلفة الدواء، ويحقق العدالة بصورة فريدة، حيث يدفع كل مواطن 6% من دخله، ويدفع صاحب العمل 6% أخرى، ويصرف هذا المال كله على الجميع، بمن فيهم من غير القادرين، وتحصل شركة تأمين حكومية هذه المبالغ وتضعها فى حسابها البنكى، وليس فى حساب الدولة.. وفى نفس الوقت تقوم الدولة ببناء المستشفيات الحكومية الضخمة التى تديرها شركات متخصصة فى الإدارة، فى حين يبنى القطاع الخاص مستشفياته.. ولا يسمح للطبيب بفتح عيادات خاصة ويذهب المريض إلى أى طبيب ولا يحتاج إلى تحويل من الطبيب العام، ويقدم المستشفى- حكومى أو خاص- فاتورة الحساب مباشرة لشركة التأمين التى تدفع الحساب، وتساوم شركة التأمين مصنعى الأدوية على سعر منخفض جدا لأنها وحدها المتحكمة فى الشراء، ويتميز هذا النظام بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق العدالة والمساواة بين الأطباء، مع منع العيادات الخاصة والعلاج التجارى وتضارب المصالح، والجميل فى الموضوع هو الفصل المالى التام بين شركة التأمين والدولة.. وقد وجدت الأطباء والمرضى سعداء جدا بهذا النظام المحكم).

انتهى خطاب أخى الكريم د. أسامة حمدى، الذى أحيله بدورى إلى كل من يهمه أمر الصحة فى مصر، وأطالب بعقد مؤتمر موسع يحضره المتخصصون فى الإدارة الصحية وأساتذة الطب وممثلو نقابة الأطباء لوضع سياسة واضحة الملامح لنظام صحى بأهداف محددة، مع الاستعانة بأطبائنا فى الخارج المهمومين بالقضية.. فمشكلاتنا معروفة، وهى تشمل تعليم وتدريب الأطباء، وخلق بيئة مناسبة ولائقة لعمل الطبيب، وتعدد أنواع المستشفيات من حكومية وجامعية وعسكرية وغيرها، واعتماد المريض المصرى مرغما على المستشفيات والعيادات الخاصة، برغم التكلفة الباهظة وعدم إحكام الرقابة عليها، وكذلك مشكلات التمريض المزمنة والنظام الصيدلى وتجارة الدواء والخدمات الصحية بالريف والصعيد، وتدنى الثقافة الصحية وانعدام ثقافة الكشف الدورى، وطبيب الأسرة، وغيرها من المشكلات التى تحول دون حصول المريض المصرى على حقه من الصحة كما كفله له الدستور.
"عن المصري اليومً"

التعليقات