محمد الشاذلي يكتب: عندما تقنع بأن الحياة "تيسرت"!

وفي هذا الإطار الصارم كانت سيرة "تيسرت" للمعماري السعودي صالح بن علي الهذلول والتي صدرت قبل أيام عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.

وكم كانت السيرة كفن أدبي وحاجة نفسية هدفًا لطيفًا واسعًا من السعوديين، كسيرة الوزير غازي القصيبي في "شقة الحرية"، و"السجين 23" للإعلامي البارز محمد سعيد طيب و"سيرة ومسيرة" للمحامي المرموق صالح الطيار، وسيرة الشاعرة هدى الدغفق في كتابيها "أشق البرقع.. أرى" و"متطايرة حواسي"، و"حياتي مع الحب والجوع والحرب" للصحفي الكبير عزيز ضياء.

لقد اختار الهذلول عنوانًا مؤثرًا لكتابه، وربما شرحه في ندوة أخيرًا في "بيت يكن" في سوق السلاح بالدرب الأحمر، بما يفيد إحساسه الطاغي بالتيسير الذي أتاحه القدر له في دراسته وفي حياته العملية وفي تمتعه بخليط شديد التنوع من أصدقاء سعوديين ومصريين وأجانب، كانت ندوة توقيع كتاب المعماري السعودي البارز في مكان يحفل بالأثر وبالبشر، وفي بيت ُقدر له الإنقاذ من يد العبث على يد معماري مصري آخر هو المهندس صلاح زكي، وحافظ البيت التاريخي على اتصاله بالسكان، وبدا كجزء من منظومة أكثر رحابة من مساحته المجاورة لحمام بشتاك والجامع الأزرق، وغيرهما، مما يفخر به تراث القاهرة القديمة.

وكثيرًا ما يأنس كاتب السيرة إلى فكرة مراوغة وهي أنه لم ير في سيرته ما يستحق الذكر أو الكتابة عنه أو حوله، فيسأله المقربون، لكنه يؤجل الخوض في التجربة، وأبان الكاتب عن دافع رئيسي، ويعترف بأن صديقه المهندس عبدالعزيز العنبر وفي رحلة إلى بريطانيا قبل أكثر من عشر سنوات، أستمع له على العشاء ليومين أو ثلاثة متواصلين، يناجيه بأحاديث وقصص وذكريات، فيكتب له العنبر ورقة واحدة ويسلمها له في مظروف مغلق، تتضمن اختصارًا لما سمعه منه، مناشدًا إياه كتابة السيرة؛ لتقبع الصفحة سنين عددًا في مكتبه، ليعود إليها مستثمرًا حجر كورونا، الذي ألزم الجميع بيوتهم، لينجز السيرة.

هي إذًا "تيسرت" أخرى في حياته، وهو يشرح فحوى الاسم من أنه مشتق من آيات سورتي الانشراح والضحى، اللتين وجد فيهما وصف مخالب الكربة ثم إلهامات الفرج وضوء المنح والعطايا وأصول قواعد التعامل. ويجمل الهذلول الحكمة التي خرج بها من حياته: إذ عشت يتيمًا، وعشنا عوزًا وحاجة ويسر الله أمورنا، وكلما تعسر أمر في حياتي وضاقت بي الدنيا فتح الله بابا أفضل مما كنت أرغب أو آمل أو أتمنى".

كان الهذلول ابن قرية "البدائع" في القصيم صادمًا لحد وصف معيشة أسرته "على بساط الرمل العتيق وأنياب الحصير تلتهم أجسادهم، تأكلهم ألسنة البرد وفوقهم سحابة يأس قاتمة، يشعلون النار في الحطب فيجلس الجميع حول النار ينعمون بدفئها، ويرمون في داخلها كل آلامهم وأوجاعهم، تغوص أصابعهم داخل النار صوب قطعة خبز تكاد تحترق فيفشلون في إنقاذها".

ذلك الوصف هو أحد تجليات المثقفين السعوديين الذين عاشوا سنوات المعاناة وامتد بهم العمر إلى عصر الوفرة. واستطاع الكاتب بذاكرته الحافظة أن يقدم شرحًا تفصيليًا لطفولته وجذوره وأنساب عائلته، ولقريتـه "البدائع" أرض "الولادة والنشأة ومهد الصبا وملعب الشباب وقرة العين ومهوى الفؤاد، وحيز المتعة الجميلة الغاربة رغم قسوة الحياة".

وكما تعاملت غالبية المجتمعات العربية مع الاختراعات الغربية فقد حكى عن وصول الراديو إلى "البدائع" في منتصف الخمسينيات، وهو في تلك الفترة محرم عند كثير من الناس، لأنه ينشر الرذيلة ويقضي على كل فضيلة، وتم تهريب راديو جاء به أخوه من الرياض عبر مأمورية سرية، ووضع في غرفة داخلية حتى لا يُسمع خارج البيت، لكن الراديو طوى لهم المسافات وسرد لهم الأخبار.

وإذا كان من شروط السيرة الصراحة فإن الهذلول كان مستجيبًا لشرح كل ملابسات سنوات الطفولة والصبا والمدارس التي انتظم في فصولها من الجلوس على الرمل إلى المقاعد الخشبية، ومن ثم السفريات والقراءات الأولى، وتأثير المدرس المصري، ثم كان النزوح إلى العاصمة الرياض للإلتحاق بمدرسة ثانوية صناعية ليلية حتى يتسنى له العمل بالنهار، وإلى كلية الهندسة في "عليشة" بالرياض في تخصص العمارة.

كانت محطة مهمة للذهلول تعرفه إلى أستاذه وصديقه فيما بعد وحتى حضوره وحديثه الشيق في ندوة بيت يكن، المعماري المصري عادل إسماعيل الذي رتب له ولثلاثة طلاب آخرين، وهم في السنة الرابعة، رحلة إلى جامعة "كارلسروها" بألمانيا مدة ثلاثة أسابيع.

وانطلقت الرحلة برًا في صيف 1971 من الرياض إلى الجامعة الألمانية، وبسبب المواقف والحوادث والمفارقات وصلت سيارتهم متأخرة أسبوعًا، فلم يذهبوا للجامعة غرض الرحلة الأصلي وأكملوا الاستمتاع بالرحلة الأوروبية الأولى لهم، وكأن الطريق والرحلة أجمل من الوصول.

وكان أثر انحناء يوغوسلافي مسلم ليبكي ويقبل لوحة سيارتهم لأنها كانت "خصوصي المدينة المنورة". بعد تخرج الهذلول وتعيينه معيدًا في صيف عام 1972، بدأ يراسل الجامعات في أمريكا للحصول على الماجستير، وتلقى رفضًا من إحدة عشرة جامعة، وقبول مشروط من جامعة واحدة، ثم موافقة من جامعة هارفارد في بوسطن.

وفي صيف 1973 طار من "البدائع" إلى أمريكا، لينقلنا إلى رحلة تعليمية شائقة وحرجة في المجتمع الأمريكي، إلى أن يحصل على الماجستير، ثم الدكتوراه في عمارة المدينة الإسلامية، وعاد بالدكتوراه في بداية العام 1981، وباشر عمله كأستاذ مساعد في قسم العمارة بكلية الهندسة جامعة الملك سعود. وتولي بسرعة الإشراف على قسم العمارة ثم رئيسا له في عام 1982.

وفي العام التالي تحول القسم إلى كلية التخطيط والتصميمات العمرانية، وسرعان ما يترك الجامعة ليقبل عرضًا من وزير الشئون البلدية والقروية إبراهيم العنقري، وهو منصب وكيل الوزارة لتخطيط المدن وباشر العمل في أبريل 1984 حتى تقاعده عام 2004، ومن ثم عودته إلى الجامعة.

التعليقات