الانتقام من التاريخ !

من يعرف د.سحر سليم، أستاذ الأشعة بطب قصر العيني، يدرك مدى عشقها للحضارة والتاريخ، وهو ما جعلها من العلماء القلائل المتخصصين في الأشعة على الآثار بالعالم، وعشقها لا يتوقف عند الحضارة الفرعونية، لكنه ممتد لكل العصور التاريخية.
لذا اتصلت بي الصديقة العزيزة لتبلغني بالتعديات التي تجرى على "قصر الدوبارة"، الملاصق لمسكنها في جاردن سيتي، وأرسلت لي مجموعة صور تظهر عمليات الطلاء والدهانات، وتركيب أرضيات تشوه الأثر التاريخي، وبدت في الصور الإنشاءات المدرسية التي شوهت الطراز المعماري للقصر، وقد أصابني ذلك بدهشة، ليس فقط لما يحدث من تدمير لأثر تاريخي في غياب وزارة الآثار، وإنما لعلمي بأن "قصر الدوبارة" هدم في عهد الملك فاروق لتوسيع كوبرى قصر النيل، وأقيمت كنيسة الدوبارة على أطلاله، وبيعت المساحة الكلية على أجزاء، وأنشئت عليها مبانٍ عديدة.
والقصر الذي ضمت جدرانه صفحات من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والوطني، أقامه الأمير الشاب إبراهيم إلهامي بجاردن سيتي، وصممه المعماري الإيطالي أنتونيو لاشياك، لكنه توفي وعمره 24 عاماً، وانتقلت ملكية القصر لأرملته الأميرة منيرة، إبنة السلطان العثماني عبد المجيد الأول، ولإبنته الأميرة أمينة هانم إلهامي، ولم تكن تجاوزت العامين آنذاك، وظل القصر الذي كان يستقبل جلسات نساء الأسرة العلوية شاغرًا، حتى عادت الأميرة أمينة من إسطنبول بعد إتمام تعليمها، ليقع اختيار الخديوي إسماعيل عليها لتزويجها ابنه الأمير توفيق، قبل أن يصبح حاكمًا لمصر، وجرى حفل زواجهما ضمن حفل زواج أبنائه الجماعي، الذي استمر 40 ليلة، فيما عُرف بـأفراح الأنجال.
وأقامت الأميرة في قصرها، وأنجبت عباس حلمي الثاني، الذى عزله الإنجليز عن حكم مصر عام 1914، وكانت تعرف بلقب أم المحسنين، لأنها أوقفت حياتها على العمل الخيري، وكفالة المساكين والمرضى فى الجمعيات الخيرية، وتم نقش هذا الاسم على قبرها، لكن القصر صار مقرًا للمندوب السامي البريطاني، وسكنه اللورد كرومر لمدة 23 عامًا، شهد خلالها احتجاجات ضد الاحتلال البريطاني، وتوارى اسمه من ذاكرة المصريين الرافضين للاحتلال، ليحمل اسمًا ساخرًا هو قصر الدوبارة، تعبيرًا عن تسلط الإنجليز على الحاكم الذي بدا كدمية في أيديهم!!
وبعيدًا عن اسم القصر وصاحبه، فهو أحد القصور التاريخية ذات الطابع المعماري والجمالي، والتي طغى عليها الإهمال والقبح، بعد أن تحولت لمدارس تابعة لوزارة التربية والتعليم، برغم أهميتها التاريخية والأثرية!! والسؤال هل تمت تلك العمليات بعلم وزارة السياحة والآثار أم في غيبة منها؟! لقد دقت د. سحر ناقوس التحذير لعله يجد صدى لدى المسئولين، لإيقاف ذلك العبث بهيئته الأثرية وقيمته التاريخية، فمهما كانت كراهيتنا لفترات أو شخصيات تاريخية، فذلك لا يعطينا الحق في تشويه تراثنا المعماري والحضاري انتقامًا من ذلك التاريخ!!

"عن أخبار اليوم"

التعليقات