هناك أشياء لا يدركها الإنسان بالعين المجردة ومن ضمنها الحقيقة. والكثيرون يدّعون أن الحقيقة لها أوجه متعددة وزوايا كثيرة تجعلنا نختلف في فهمها وتفسيرها. وما يحدث في أمريكا هذه الأيام لا يختلف عما يحدث او يمكن أن يحدث في بلدان أخري. وكعادة البشر الكل يري حقيقة ما يحدث بما يلائم أغراضه أو ما يتناسب مع مستوي قدراته الفكرية. حادث متكرر أسفر عن مقتل أمريكي أسود بطريقة وحشية علي يد رجل شرطة أبيض في وجود ثلاثة رجال شرطة أخرين لم يتحرك أي منهم لإنقاذ المجني عليه. الحادث تم تصويره فيديو ونشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات. عشرات الالاف من المواطنين يخرجون في مظاهرات شملت اكثر من اربعين مدينة أمريكية في أكثر من عشرين ولاية أمريكية تندد بالاضطهاد الذي تمارسه الشرطة ضد الملونين. الالاف من المتظاهرين يخرجون أيضا في كندا وانجلترا وايرلندا وفرنسا وهولندا واليونان واستراليا ونيوزلندا تضامنا مع الاحتجاجات في أمريكا. وبالرغم من فداحة الحادث إنسانيا وأخلاقيًا إلا أن المظاهرات السلمية تم اختراقها بواسطة أعداد من المجرمين الذين قاموا بنهب وسلب المحلات، وبواسطة جماعات عنف مناهضة للفاشية واستعلاء البيض تستهدف إحداث الفوضي وترويع الناس وحرق المنشآت والسيارات. وقد استغل ترامب تشابك تلك الأحداث فقام باستدعاء الالاف من رجال الشرطة العسكرية والحرس الوطني والخدمة السرية والمباحث الفيدرالية والخيالة وشرطة العاصمة لحمايته من المتظاهرين وحصار كافة الطرق المؤدية للبيت الأبيض. كما قام بانتهاز فرصة خروجه لحديقة البيت الأبيض لإلقاء بيان مقتضب، وأصدر أوامره بتدخل القوات لإطلاق الرصاصات المطاطية والغازات المسيلة للدموع علي جموع المتظاهرين السلميين دون أدني تحذير واخلاء ميدان لافييت تماما من المواطنين. وإذ بالرئيس ترامب بعد ان هدد بنزول الجيش بشوارع المدن والولايات لقمع المتواجدين، يتجه سيرا علي الأقدام عبر ميدان لافييت ليقف أمام الكنيسة المطلة علي الميدان رافعا انجيل بيديه بهدف تصويره من كافة وكالات الأنباء والفضائيات المتابعة للحدث. هذه هي الحكاية ولكن ماذا عن الحقيقة؟ ١ . خروج تلك الجموع الهائلة للاحتجاج علي وحشية ما حدث ومطالبتهم بالعدالة الناجزة واصلاحات تمنع حدوث مثل هذه الجرائم مستقبلا. هل تعبر تلك المظاهرات عن غضب الأغلبية في أمريكا مما حدث أما أنها مازالت تمثل قلة من المواطنين لا تزيد بأي حال من الأحوال عن ٢٠٪؜ علي سبيل المثال. الأرجح أنها لا تمثل الأغلبية. ٢ . الحديث عن استغلال حركة انتيفا، وهي حركة اناركية تدعو الي العنف لمواجهة الفاشية اليمينية، لإشاعة الفوضي والتخريب والحرائق أثناء المظاهرات هو اتهام يخدم التيار اليميني ويثير مخاوف المواطنين من التيار اليساري وبالتالي من الحزب الديمقراطي. ويبقي السؤال هل تمثل التيارات اليسارية المتطرفة الحزب الديمقراطي. الأرجح أنها لا تمثل الحزب الديمقراطي. ٣ . عمليات النهب والحرائق والعنف التي واكبت المظاهرات. هل اضعفت من تعاطف المواطنين مع قضية مقتل جورج فلويد؟ الأرجح أنها أثرت بالسلب ٤ . التمثيلية التي أعدها ترامب بالأمس. هل كانت موجهة للمتظاهرين أم لقاعدة المؤيدين له أم لجموع الشعب الأمريكي. الأرجح أنها كانت موجهة لقاعدته التي تتوق لفكرة العنف لمواجهة معارضيهم. ٥ . استمرار دعم أغلب الجمهوريين لترامب رغم تهديداته باستخدام العنف لفرض النظام والقانون. هل يتسبب هذا الدعم في فتح الباب للحركات اليمينية المسلحة المتطرفة للاحتكاك بالمتظاهرين والحركات المماثلة المناهضة لليمين. الأرجح حدوث مثل هذا التدخل في حالة فشل ترامب في السيطرة علي الموقف. ٦ . في حالة انخفاض شعبية ترامب قبل انتخابات نوفمبر ومن واقع تصريحاته وأفعاله، هل يشعر المواطن الأمريكي أن ترامب سيحترم مبدأ التداول السلمي للسلطة. الأرجح أن المواطن الأمريكي سينتظر ليري ما يمكن أن يحدث.

(من صفحته)