روائح الحياة ...

 

لعبت الصدفة دورها في "اكتشافي "الذي هو ليس باكتشاف!
.. و الحكاية ببساطة انني أهوي روائح البخور .. ربما هي عادة حملتها معي من طفولة بعيدة ، و تطورت مع الايام .. تماما كما تطورت نوعية وشكل البخور منذ كان ايام طفولتي ، يوضع منثورا فوق سطح ساخن ، ثم ينقل الي مباخر البيت ، حتي صرت استخدمه في صورة أعواد لما صار لي بيت ..
.. ارتبطت رائحته في كل المراحل ، بأوقات" صفا "و سكينة "الاعتياد " .. الآن نعي قيمة " الاعتياد" .. نثمن "روتين" اليوم الذي لا يخرج عما ألفناه .. شغلا للوقت ، كنت ارتب ذلك الدرج " المنسي " الذي نسيت حتي ماذا يضم .. درج فيه من كل بستان زهرة ! لامست اصابعي كيسا بلاستيكيا قابعا في اقصي درج المنسيات ".. أعواد بخور .. قابعة ، مختفية ، عتيقة ، بلا علبة ، و ليس هناك اي اشارة الي نوعها او منشأها .. أشعلت منها عدة أعواد ، وزعتها في ارجاء البيت ...و رحت لشأن آخر ..مع هبات الرائحة النفاذة ، خيل الي ان اللحظة غير اللحظة ، كاد أن يترامي الي سمعي ، خطوات من احب .. معالم حضورهم ..أزيز أبواب غرف تفتح أو تغلق .. الوان موسيقا .. صرير مفتاح باب البيت معلنا عن قدوم والتئام ..رنين الملاعق والشوك في أطباق المائدة .. نداءتهم التي كثيرا ما كانت تتزامن في نفس الوقت :فأرد :" خرجت .. أنا مش هنا .. أنا خرجت " ! .. كأن لا مسافات ولا حصار..
المذاقات والروائح والاصوات لم تعد من وسائل ليس استحضار ذكريات ، و لكنها صارت "اقتفاء أثر" الحياة ..التشبث بتلابيب الحياة التي تنسحب صورتها كما عهدناها منا ، رغما عنا...يبشرون بنوعية جديدة للحياة ..يتكلم عنها الفلاسفة و الساسة والعلماء ، و يشتركون في اللفظ و ما يعبر عنه .. " المستجد" .. الفيروس مستجد و الحياة التي نحن مقبلون عليها أيضا " مستجدة" .. ربما القادم " أحلي"، لكني لا أعرفه .. ما اقتفي اثره هو ماعرفته .. روائح تحمل شفرات، بشر نحبهم و أزمنة مطمئنة .. حضور "الحياة "
في مثل هذه الايام .. كانت رائحة " العجمية " تفرش غيمتها و تدخل حتي غرف النوم !
"العجمية " حشو كحك العيد البيتي، المصنوع من السمن البلدي و العسل الابيض والسمسم و قليل جدا من الدقيق .. كان فيه يوم مخصوص لاعداد العجمية ، و شروط للعسل المستخدم في طهيها و الذي يتم تخزينه قبلها بشهور .. العسل الابيض يأتي من " قطفات " لها اسماء ، حسب الزهرة التي يتغذي منها النحل .. عسل قطعة برتقال .. عسل قطفة برسيم ( نعم زهرة البرسيم) .. العجمية ، النفس الهادي ..البال الرائق ، الروح الحلوه حتي قبل المصنعية التي تستلزم حكمة و مهارة ، لانه لابد من التحكم في قوامها .. فلا يبدو القوام سيالا و لا متماسكا اكثر من اللازم ، بل طيعا معقولا ، يتجاوب و فرده مع الكحكة ..تمتزج رائحة السمن المقدوح و السمسم و العسل و تفوح ، تسبقنا النشوة الي ملاعق تختبر المذاق و القوام و لا نأبه للسعات العجمية !
"الجوافة " .. هي انكسار هبو الصيف و شتاته ..تقترن عندي رائحتها ، بقدوم الخريف ، ففي طفولتي .. كانت للمواسم معالم .. روائح متمايزة ، برتقال و يوسفي "الشتاء"، و مشمش "الربيع " و مانجة "الصيف " و جوافة وبلح "الخريف" .. و كنت احب "الخريف" الذي يعني استعادة نوع من الاستقرار و العودة الي اصدقاء و هويات و زخم .. الي المدرسة، و كنت احب كليهما .. أحلي مذاقات للجوافة كانت تلك القادمة من شجرة في حديقة بيت طفولتي ..ثمرات ناعمة ، قشرتها رقيقة ، مستديرة ، قليلة البذر ، لا يتجاوز حجمها حجم كرة البنج الصغيرة ، تفيض شهدا.. و هذا ما كانت تشتهر به ضاحيتنا التي دمرتها السنون حتي ان الفكهانية في اي من الاسواق ، كانوا يكتسبون ثقة المشترين بالتأكيد ان جوافتهم ، جوافة حلوان !
رائحة وحيدة كانت هي المنافس للجوافة في الضاحية التي " كانت"..التمرحنة "السخية " و الياسمين المتهدل علي اسوار لا تعزل ، و "النعناع " الذي لم يكتف بشاي العصاري ، انما احتل مكانة متميزة في حشو الحمام ! ..."
تعلن رائحة" السمك المقلي " عن أن اليوم هو الخميس الذي يعني " غدا " غير لاهث و استراحة المحارب ! القرفة" التي تعبق مطبخ رمضان معلنة عن حضور صينية الكنافة ! "القرفة" أحد الأسرار الصغيرة التي كانت بعدها تنطلق ضحكات من أحب و هم يتراهنون عبر عقود من السنين ناشفة و لا طرية !؟ ..كانت المعادلة المطلوبة" قلب طري " ، كتلك الايام ، و سطح مقرمش ، يداعب فإن لم تكن كذلك، تعالت الصيحات " خد لك ساتر " الكنافة ناشفة!! ...القرفة المنثورة علي اطباق الارز باللبن ، معلنة عن مساءات المودة ، المتغلغلة في الارز بالخلطة الذي يضم الاحبة ، القرفة المغلية في اللبن و فوقها البندق في ليالي الشتاء الآمنة ."
السكن والسكينة ..و الوعد بالبهجة و المودة .. الاكتفاء و الاكتمال ..الموطن و الوطن ..استشرف
ذلك واكثر عندما تنتشي روحي كلها و ليس حاسة شمي وحدها ، بشكشكات خليط التوابل ، الممتزج بعبق شي اللحم الملقح بعطرالمسك والزهر ..فأعود لرفة القلب الاولي في سيدنا الحسين .. مدد الروح و مداد القلب و رائحة حياتي .
(الأهرام)
التعليقات