عن التبرعات والقطاع الخاص!

ما إن تحل أزمة بالبلاد حتى تنطلق الصيحات فورا عن أين رجال الأعمال وتبرعاتهم، ولما كانت الأزمة عالمية هذه المرة فإن الأمثلة تكثر وتنهمر عن الناس الخيرين فى العالم الذين يقابلهم البخلاء والذين لا يقومون بواجباتهم «الاجتماعية» فى مصر. على صفحات «التويتر» تجرى عمليات لاستنطاق رجل أعمال لكى يبوح بما تبرع به باعتبار ذلك أمرا عاما يحق لكل «تويترى» أن يتدخل فيه ويقرر عما إذا كان كافيا أم لا!.

الفكرة التى تنشع من كل ذلك هى أن رجل الأعمال هو بالضرورة رجل غنى وغناؤه فاحش، ومن ثم فإن من صميم واجبه الوطنى والدينى أن يهم فورا ويقدم المعونة للآخرين الذين أضيروا من البلاء. الكلمات والعبارات فى الأغلب خشنة وفيها شحنة من التحريض، ولا بأس من تهديد بسلطة الدولة أو التأميم وأحيانا التشهير بالأراضى التى حصل عليها رجال الأعمال فى أزمنة ماضية، والقصور التى يعيشون فيها، والطائرات التى يطيرون عليها، و«الكومباوندات» التى يقيمونها. لن تجد أبدا فى هذه المهاترات المدن التى جرت إقامتها، والمزارع التى جرت زراعتها، والمصانع التى تم بناؤها، ولا قوائم التصدير والخدمات التى تشكل جزءا هاما من الناتج المحلى الإجمالى للدولة، ولن تجد قائمة بعدد المشتغلين لديهم، ولا مقارنة عادلة بين ما يقومون به وما يماثلهم فى المؤسسات العامة من مصانع وشركات إنتاجا وتصديرا، وبالتأكيد لن يأتى أحد على سيرة الضرائب التى يدفعونها ولا حتى ما قاموا به من تبرعات سبقت فى مناسبات متعددة جعلت مؤسسات كبرى فى العمل الأهلى تقوم على أقدامها وتصبح كيانات اجتماعية واقتصادية عملاقة رغم أنها تقدم خدماتها بالمجان.

الأصل فى الموضوع أن لكل جماعة أو هيئة أو مؤسسة فى الدولة وظيفة، وتكامل هذه الوظائف وارتفاع إنتاجيتها هو الذى يقدم للوطن ما فيه من حالة تقاس بالناتج المحلى الإجمالى ومقاييس أخرى للصحة والعلم إلى آخره من مقاييس. ووظيفة رجال الأعمال فى هذه المعادلة هى الاستثمار وبناء المشاريع وتشغيل الناس والحصول على الربح الذى يدعم كل ذلك باستثمارات جديدة والتوسع فى إنتاج وإدارة الثروة. وفى زمن الأزمات فإن الوظيفة الأساسية تصبح الحفاظ على كل ذلك بكفاءة اقتصادية تقوم على خفض المصروفات والبحث عن موارد جديدة. الأمر يصدق على أزمة الكورونا، حيث يكون الحفاظ على العمل والإنتاج، وتوفير الرواتب لمن يتم إرسالهم إلى المنازل، هو البطولة والإضافة الحقيقية للجهد الوطنى فى التعامل مع الأزمة.

وطالما أن الاستشهاد بالخارج وارد فإن تريليونين ومائتى مليار دولار سوف تقدمها الخزانة العامة فى واشنطن لمكافحة الفيروس للشركات الكبرى والصغرى حتى تستمر فى دفع رواتب العاملين، وبالتالى يستمر الطلب على السلع والبضائع والخدمات الذى هو الضمانة للاستمرار والنمو فى اقتصاد ما بعد الأزمة. رجال الأعمال والقطاع الخاص بهم ليسوا أهراما من الأموال التى يمكن استخدامها عند الطلب، فهى فى الأغلب أصول وأقساط قروض وموردون وضرائب يجرى التنازع عليها لسنوات.

هم يعيشون حياة مريحة نعم، وفيها الكثير من الرفاهية، ولكن هذه تحققت عبر سنوات طويلة من العمل والعلم أيضا واستغلال المهارات الخاصة والمعرفة بالسوق المحلية والعالمية وكل ذلك غير قابل للتسييل فور الطلب وتحويله إلى تبرعات، خاصة إذا كانت هذه مع الزكاة تدفع كل عام وحسابها دائما يكون عند الله عز وجل. وفى الحقيقة أنه لا يوجد فى بلد مثل مصر به مائة مليون نسمة أعداد كبيرة من الأغنياء، ومن جاء ذكرهم فى قائمة «فوربس» العالمية لا يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومن بقى منهم فى مصر يتحمل مسؤولية شركات وعمال وموظفين أحيانا تتعدى أعدادهم حجم مدينة صغيرة.

هؤلاء وصلت بهم الحكمة الاقتصادية لاعتبار التبرعات والزكاة جزءا من الامتداد والتوسع فى السوق الاقتصادية، ولكن هذه ليست توزيعا على الملأ وإنما تكون لمن أولا يقدم كشفا بحساب تبرعات سابقة وماذا أنجزت ومن أنقذت ومن شفت وكيف ستفيد خلال الأزمة وما الذى سوف يضيفه ذلك لأجيال قادمة. وثانيا أنها قادرة على تقديم المشروعات الجديدة وهذه ليست فكرة تطلق وإنما هى قائمة بحسابات التكلفة والعائد والتفاصيل بما فيه من بناء وتسويق.

لا أحد فى العالم، بمن فيهم «بيل جيتس» الذى بات عزيزا على قومنا هذه الأيام، وبالتأكيد فإنه يستحق، ولكنه لا يلقى بأمواله إلى حيث لا يعرف أين سوف تذهب، وما فعله، ويفعله بالمناسبة عدد لا بأس به من رجال الأعمال المصريين، هو إقامة مؤسسة تبادر بالعون للمحتاجين ساعة الحاجة.

التعليقات