إيهاب حسن.. الفيلسوف الخطأ

عاش الفيلسوف المصري العالمي إيهاب حسن تسعين عامًا. قطعَ رحلةً ثريّةً.. من الهندسة إلى الفلسفة، ومن جامعة القاهرة إلى جامعة بنسلفانيا إلى جامعة ويسكونسن ميلواكي. تُرجمت مؤلفاته إلى عشرين لغة.. ويعتبره النقّاد واحدًا من أبرز مؤسسي تيّار ما بعد الحداثة.
لكنّ إيهاب حسن - على هذه الشهرة الواسعة - لم يكن مفكرًا مفيدًا يمكن الاستعانة به والأخذ منه. لقد كان مشروعه هو تدمير المشروعات، وكان طريقه هو قطع كل الطرق.. عاش ليؤسِّس للفراغ، ويُطلِق الفوضى، ويصنع العَدَم!
ذات يوم كتب الفيلسوف الفرنسي الشهير "جان فرانسوا ليوتار" يمتدح إيهاب حسن.. ويعترف بأنَّه هو من نبَّهه إلى مفهوم ما بعد الحداثة. وكتب تشارلز جينكس - منظّر ما بعد الحداثة في فنِّ العمارة - يقول: إن إيهاب حسن كان هو من عمَّد مفهوم ما بعد الحداثة وجعله أكثر استقرارًا.
ولمَّا رحلَ إيهاب حسن عام 2015.. لم يكتب أحدٌ في الغرب سطرًا واحدًا مهمًّا عن الراحل الكبير. مثل أفكاره العدميّة بشأن ما بعد الحداثة.. أصبح هو ذاته عدمًا بالنسبة للمثقفين في الغرب.
وفي مصر - بلد إيهاب حسن- جرى إهمال الراحل بمثل ما أهملته الولايات المتحدة. لا يمكن تفسير الإهمال المصري بالإهمال الثقافي العام وتدهور القوة الناعمة المصرية فحسب.. ذلك أنه لطالما كان له أنصار ومؤيدون في أروقة الأدب والفلسفة في بلادنا.. لكن العداء غير المبَّرر الذي كان يحمله إيهاب حسن لوطنه.. خلق حاجزًا بينه وبين المثقفين المصريين.
لقد تحدَّث إيهاب حسن باعتزاز عن قراره حين غادر مصر في أعقاب تخرّجه في كلية الهندسة جامعة القاهرة.. بعدم العودة إليها أبدًا. وفي المرة الوحيدة التي زار فيها والديْه في مصر.. لم يعد لزيارتهما أبدًا.. وتحدَّث عن اتخاذه قرارًا.. بعدم العودة إليهما مرةً أخرى على مدى حياته!
وحين تحدَّث إيهاب حسن عن أعظم رمزٍ لأعظم حضارةٍ في العالم.. تحدَّث باستعلاءٍ كريه.. قال: "لا أتذكَّر من طيور مصر سوي غِربان.. رأيتها تنعق إلى جوار الأهرامات"!
يمتلك إيهاب حسن آراء سياسية ساذجة لا تنسجم مع المستوى التركيبي الرفيع لمؤلفاته في نقد الأدب الأمريكي، ذلك أنه يتحدّث عن الحقبة الملكية المصرية باختزال شديد وتبسيط مذهل لا يناسب طالبًا في مدرسة ثانوية.. حيث لا يرى من النهضة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين.. وحركة التحرّر الوطني، وازدهار العلوم والفنون والآداب.. سوى أغنياء اكتسبوا ثرواتهم.. نتيجة الفساد السياسي والاجتماعي الذي كان سائدًا بفعل القصر والاحتلال.
لقد نشأ إيهاب حسن في أسرة إقطاعية، وكان والده ضابطًا كبيرًا.. وكان يمكن أن يشكِّل رؤية أكثر  عمقًا بشأن السياسة والمجتمع في مصر.. لكنه لم يكن ناقمًا على عصر النهضة المصري فحسب.. بل كان ناقمًا على مصر بأكملها.. من العائلة إلى الأهرامات.
إن الفيلسوف المصري العالمي إيهاب حسن هو نموذج لإهدار المعرفة، وتحطيم المعنى.. سعيًا وراء "موضة فكرية".. لينال منها الشهرة والمكانة.. عوضًا عن السعى إلى المسئولية والرسالة. لقد هرولَ إيهاب حسن وراء فلاسفة عابثين.. امتلكتْ شعوبهم اقتصاديات الرفاهية وجوْدة الحياة، وتجاوزتْ بلدانهم حاجز التقدِّم والسطْوة. وبدلًا من أنْ يطوِّر مشروعًا فلسفيًّا لاستعادة العقل في بلاده.. راح يحطِّم أُسُس العقل والحداثة.. ويعمل ضد احتمالات الصعود والانطلاق.
وضع الدكتور إيهاب حسن جدولًا.. لقيم ما بعد الحداثة، وفيها انحاز الفيلسوف إلى كلَّ ما هو ضدَّنا. تحتاج بلادنا إلى التراتبيّة فانحاز إلى الفوضى.. تحتاج إلى التمركّز فانحاز إلى التشتِّت.. تحتاج إلى البناء فانحاز إلى التفكيك.. وإلى الإبداع فانحاز إلى الهدم، وإلى الشكل فانحاز إلى اللاشكل.. تحتاج بلادنا إلى التخطيط فانحاز إلى المصادفة.. وإلى الحضور فانحاز إلى الغياب!
عاش إيهاب حسن على هامش المشروع الحضاري الأمريكي، وعاش على نقيض المشروع الحضاري المصري.. فلا هو أصبح منهم ولا منّا. وكان الموقف من رحيله تعبيرًا عن الحساب الختامي للفيلسوف.
ألَّف الفيلسوف العالمي إيهاب حسن (12) كتابًا وكتب (200) مقال.. وترجم له الشاعر "محمد عيد إبراهيم" كتابه "دورة ما بعد الحداثة" إلى اللغة العربية. من أبرز كتب إيهاب حسن "أدب الصمت" و"أشباه نقديّة: سبعة تأمّلات لزماننا" و"تقطيع أوصال أورفيوس".
يرى إيهاب حسن أن الحقائق الكليّة قد انهارت، وانهار معها اليقين.. ولم يعد هناك إلّا شظايا مبعثرة فى كل اتجاه.. مثل أوصال أورفيوس.
فى عام 1971 أصدر إيهاب حسن كتابه الشهير «تقطيع أوصال أورفيوس».. نحو أدب «ما بعد حداثى».. وتقول أسطورة أورفيوس إنه شاعر له قدرات سحريّة.. تزوج حوريّة جميلة، ثم لدغتها أفعى فماتت. فراح يبحث عنها فى العالم السفلى حيث أرواح الموتى.. فكان أن كادتْ له النساء بسبب ما يفعله من أجل حبيبته.. وقُمن بتمزيقه إرباً إرباً.
إن فلسفة ما بعد الحداثة هى فلسفة اللايقين.. حيث لا يمكن إثبات أى شئ، لا في العلم ولا في التاريخ ولا في أي مجال آخر. إن النصَّ الذي تقرأه مرة أخرى هو نصّ آخر. كل قراءة جديدة هى تعبير جديد.. ولا يوجد أبدًا ذلك المعنى النهائي.
إن واحدةً من أكثر العبارات تأثيرًا في مقولات إيهاب حسن.. تتمثَّل في نقده لما آل إليه علم الفيزياء من صناعة الموت. يقول حسن في أسى شديد: "أَخْبِر الناجين من هيروشيما ونجازاكي.. أن رجلًا يدعى أينشتاين كتب على السبورة E=MC2.. فكانت النتيجة تحويل مدينتيْن إلى رماد".
إن المشروع الفكري للفيلسوف المصري إيهاب حسن يحتاج إلى قراءة واسعة.. ذلك أنه بنهاية المطاف، أحد الأسماء الكبرى في تيار ما بعد الحداثة.. الذي هو أيضًا تيار كبير في الفكر العالمي المعاصر. ثم إنَّه - شاء أم أبى - هو فيلسوف مصري تخرَّج في جامعة القاهرة.. وظلت مصر تلاحقه رغم صدّه عنها. وهو بالنسبة لنا  - على عدم إفادته لمشروعنا الحضاري ودعوته إلى نقيض ما نحتاج- يمثل قَدَمًا قوية لنا في الفكر الغربي.. ومساحةً مهمةً لنا في الفلسفة المعاصرة.
يمكن الاستثمار في الاسم دون الاستثمار في الفكر.. تحويله إلى أيقونة أنيقة.. دون أنْ يتحوَّل إلى مصدر إلهام.. أو خريطة طريق.

التعليقات