محمد النجار.. مخرج في المواجهة

 كان المخرج محمد النجار الذي غاب عن عالمنا قبل أيام، مهمومًا برصد المتغيرات التي يشهدها المجتمع المصري، ربما قبل أن يكون مغرمًا بالمهنة، لكن الذي حدث هو التضافر في رؤيته السينمائية بين عشقه وهمومه، فأخرج مجموعة من الأعمال التي قدم من خلالها إسهاماته الفنية المميزة في تاريخ السينما. 

هو الشاب المراهق ابن حي شبرا الذي حصل علي شهادة الثانوية العامة بتفوق لكنه كاد أن يتسبب بكارثة عندما هدد بحرق أالبيت إذا منعته الأسرة من الالتحاق بقسم الإخراج بمعهد السينما. 

وفي اللحظة التي توجه فيها النجار إلي المعهد كانت مصر تنفض عن نفسها غبار الهزيمة وتنتصر في حرب أكتوبر 73، وتتهيأ لمستقبل جديد أراده شباب ذلك الجيل ناصعًا بريئًا من كل زيف ومسترشدًا بالعبور العظيم.

ورغم إلحاح النجار علي الانخراط في السينما فإنه لم يتعجل، مؤمنًا بأن الفرصة سوف تأتيه، ومنشغلا في الوقت ذاته بالعمل مع مخرجين كبار من ثمانينات القرن الماضي، كمساعد وكمخرج منفذ. 

فحصل على فرصة مع المخرج محمد راضي في أفلام "العمر لحظة" و"الجحيم" و"أمهات في المنفى" ثم مع عاطف الطيب في "سواق الأوتوبيس" و"الحب فوق هضبة الهرم" و"الزمار" و"ملف في الآداب"، ومع داوود عبد السيد في "الصعاليك" فالدكتور هشام أبوالنصر أستاذه في المعهد في فيلم "قهوة الماوردي"، ومع فاضل صالح في "البرنس" ومع بشير الديك في "الطوفان". 

ثم جاءت الفرصة الكبيرة من نور الشريف عندما أسند إليه إخراج فيلم "زمن حاتم زهران" وهو الفيلم الذي طرح أسمه بقوة في عالم السينما.. 

كان الفيلم ضفيرة مناسبة للنجار تطرح تقريبًا كل التيمات والترجيحات التي تعتمد عليها أفكار جيله، وطريقة ذلك الجيل في الفهم والتحليل لما يرونه حادثًا أمامهم، هي قراءة لما حدث في مصر بعد حرب أكتوبر، ثم الانفتاح السياسي والاقتصادي. 

ودارت كاميرا النجار في ذلك الحيز الفكري رابطًا الزمن بالصورة بالنماذج والشخصيات شديدة الولاء لأفكارها، سواء الذين انتصروا أو الذين حاولوا استثمار النصر لمصالحهم الشخصية. وإذا كان البعض حين رأي الفيلم وجدها "نماذج" جاهزة، لا تتبدل، محفورة في قوالبها الشخصية الصلبة، ومنها الشخصيات البريئة، المناضلة، والانتهازية، فهي من جانب فني تعبر عن نفسها وأحوالها وتجسد مطامحها ومأساتها.

وذلك التناول هو ما يمكن مشاهدته في بعض من الأفلام التالية للنجار، مثل "الصرخة"، "الذل"، و"الهجامة"، وبالتالي فإن سينما النجار بقدر ما تنقل الواقع الصادم وشخوصه وبقدر ما تدينه، فهي لا تغلق القوس، إنما تفتحه على كل الاحتمالات.

أما بطل الفيلم حاتم الانفتاحي شقيق الشهيد يحي (وقام نور الشريف بالدورين) لكن شتان، بين من انتصر واستشهد وبين من أراد ربح الحرب ونتائجها بأنانيته المفرطة. 

كان الانفتاح يلقي بعصاه واغراءاته ليصطاد كثيرين من خلال مشروع مصنع لأدوات التجميل في قرية "الحرانية" تسبب في طرد مستأجري الأرض. 

لم يكن استسلامًا أمام حيل الانفتاح إنما ترك النجار وكاتب الفيلم عبد الرحمن محسن احتمالات للنجاة من خلال أبن للشهيد من زوجة مخلصة، ومن خلال عدم قدرة "حاتم" على الإنجاب (عقيم) لتظل جدلية المبادئ والانتهازية قائمة، وليظل الصراع بين الأخلاق والمساومات المالية.

جسد النجار الحالة الانفتاحية التي وصفها يوما الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بـ"انفتاح سداح مداح" وكان نور الشريف نفسه لمسها في فيلم "أهل القمة"، من استغلال نفوذ وانتاج استهلاكي واعلانات تسيل لعاب المشاهد.

وبعد فيلمه الأول "زمن حاتم زهران" أخرج النجار فيلم "الذل" من بطولة يحي الفخراني وليلي علوي وأحمد بدير عن قصة محمود أبو زيد (كاتب فيلم العار) عما يمكن أن يصنعه الطمع من جرائم، ثم فيلم "الصرخة" بطولة نور الشريف أيضًا وهو من الأفلام المصرية النادرة التي تناولت قضايا الصم والبكم وفضح عمليات استغلالهم ثم محاولة هؤلاء من أصحاب الإعاقات الانتقام في صرخة مدوية ضد الظلم. 

ثم كان اللقاء مع الكاتب المبدع أسامة أنور عكاشة في "الهجامة" مطلع التسعينات ليعود النجار إلي هم جيله السياسي، فالهجامة الحسناء نوسة "ليلي علوي" تقوم بعملية سرقة بيت مسئول كبير في الدولة خلال استقبال الرئيس الأمريكي، وتسجن لثلاث سنوات، وبعد انقضاء المدة تلقى في الحجز مع طالبات متظاهرات خلال انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977 إلى آخر أحداث الفيلم الذي ينتهي بإشعالها النيران في مخازن مخدرات حبيبها السابق الذي أغرق البلاد بالهيروين. 

بعدها عرف النجار طريقه الي الكوميديا في اقتراب من موجة جديدة بدأت تتشكل وكمعالجة لهموم فنية وانتاجية.. وحقق في ذلك أفلام: "صعيدى رايح جاى" و"رحلة حب" و"قلب جرئ" و"ميدو مشاكل" و"عوكل" و"على سبايسي" و"صباحو كدب"، وفي التليفزيون أخرج مسلسلات عدة.

لقد تطور أسلوب النجار بشكل كبير منذ اعتماد المخرجين المتميزين الذين عمل مساعدا في أفلامهم عليه، ثم في أفلامه التي أخرجها لنجوم كبار، من دون أن يتخلى عن مواجهة قضايا الواقع المعاش.

التعليقات