عميد الأدب غاضب بسبب الحرّ.. طه حسين عن الصيف: "كسل وفتور ونوم في نوم"

ربما يكون الصيف هو الفصل السنوي الأكثر كسبا للأعداء ممن لا يستطيعون التفاهم مع درجات الحرارة العالية فيه، وينتظرون مروره يوما بعد الآخر، بل ويعتبرون أشهره الثقيلة راحة اضطرارية من العمل والنشاط.

هؤلاء – وهم الأغلبية حاليا – إن لم يكونوا الكل- سيكون الدكتور طه حسين، بكل ما كان يمكله من بلاغة، خير من يتحدث باسمهم ويمثلهم، عند الحديث عن معاناهم المتواصلة مع هذا الفصل.

عميد الأدب العربي كتب مقالا كاملا في هجاء فصل الصيف، بعنوان "من لغو الصيف إلى جد الشتاء"، ضمن كتابه "من لغو الصيف" الصادر عام 1959، تناول فيه كيف يقضي المصريون أيامهم الصيفية الحارة، بتفاصيل تكاد تكون متطابقة مع نعيشه هه الأيام في ظل الموجة الحارة الممتدة منذ أيام.

الجو ثقيل والسرير ملاذ الجميع

يقول طه حسين بدايةً: "في الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير إلا على مهل يشبه الوقوف، وفي أناة تضيق بها النفوس".

ثم يضيف أن كل أسباب النشاط تصبح في فصل الصيف مؤجلة إلى حين، ويضرب أمثلة على ذلك: "غرف الاستقبال مقفلة، وملاعب التمثيل مغلقة أو كالمغلقة ولا تذكر الموسيقى والغناء". ويتحسر على أوضاع الفنانين تحديدا من الموسيقيين و المطربين، فيتساءل مستنكرا في إشارة إلى الشتاء المفتقد: "من لهم بهذا الجو القوي الحي الذي يبعث النشاط والخفة والمرح في النفوس والقلوب، وفي الألسنة والأيدي!".

بعد ذلك، يُشبع عميد الأدب العربي، أجواء الصيف، ذمًّا معبرا عن أحوال المصريين خلال أيامه، فيقول: "جو ثقيل يستتبع فتورا ثقيلا، يضطر الناس إلى أن يغدوا على أعمالهم فاترين، ويروحوا إلى بيوتهم مثقلين، لا يكادون ينظرون إلى المائدة حتى ينصرفوا عنها، تنازعهم نفوسهم إلى النوم، وتنازعهم أجسادهم إلى أمهم الأرض".

وفي نقطة النوم هذه، يزيد صاحب "الأيام" قائلا إن الناس في الصيف "لا يكادون ينظرون إلى سرير أو شيء يشبه السرير حتى يسرعوا إليه، ويلقوا بأنفسهم عليه، وإذا هم يتصلون به ويتصل بهم، وإذا هم يمتزجون به ويمتزج بهم، وإذا هم يصبحون مثله شيئا جامدا خامدا لا حركة فيه ولا حياة إلا هذه اليقظة الفاترة البطيئة الثقيلة السمجة التي تلم بهم من حين إلى حين، حين يثقل عليهم الحر، ويشتد عليهم القيظ".

وبروح فكاهية يواصل وزير المعارف: "يفيقون أو يهمون بالإفاقة، ثم يغرقون في النوم ليفيقوا، ثم ليعودوا إلى الغرق فيه، ثم ينحسر النهار عن الأرض بشمسه المحرقة الملتهبة".

لا أمل في ليالي الصيف!

إذن هناك أمل في الليل، إذ يتلاشى قرص الشمش الملتهب وتبدو الأجواء مهيئة لنسيم أو برودة، أليس كذلك؟ لا، لأن طه حسين يتابع واصفا الحال بعد مغيب الشمس قائلا: "يقبل الليل متثاقلا متثائبا، يبعث في الجو أنفاسا حارة، كأنها أنفاس العاشق الولهان المحروم قد أوقد الحب الخائب في قلبه نارا مضطرمة قوية اللظى".

لكن ألا يتنزه الناس في ليالي الصيف؟ لا، ثمة خروجات بالفعل، لكن لنترك طه حسين يواصل هجائيته في الصيف وسنكتشف حقيقة الأمر: "لا تكاد أطراف هذا الليل الكسلان تمس الأرض حتى تبعث في الناس نشاطا كسلا يدفعهم إلى حركات متخاذلة، فيخرجون من بيوتهم متثاقلين قد ضاقوا بالدنيا وضاقت بهم".

ويواصل في وصف حال المصريين مع الصيف ليلا: "يهيمون إن حملتهم أقدامهم يلتمسون مكانا خضرا نضرا لعلهم يجدون فيه فضلا من نسيم قد صافح الماء، وأطال عشرته بعض الوقت، فيحمل إلى وجوههم وإلى قلوبهم شيئا من هذا البرد الخفيف اللطيف الذي يردهم إلى شيء من الدعة والهدوء".

"زهق" يشجع على اللغو

ليالي الصيف تلك بحسب عميد الأدب العربي فرصة للناس "أن يخرجوا من أنفسهم وأن ينسوا أشخاصهم"، لكنها بفعل الأجواء الحارة الثقيلة تشجعهم على اللغو: "يقبلون عليه كما يقبل المريض على الطعام، لا يكادون يتذوقونه إلا على كُره وفي مضض، ولعل الجو أن يعتدل، ولعل النسيم أن يرقّ".

غير أنه سرعان ما يتسرب الأمل في نسمة عابرة. يضيف طه حسين: "يتقدم الليل ويذكر الناس أن الصبح سيشرق بعد حين ومعه الأعمال والأثقال، والتكاليف والحر والضيق، وإذا هم مضطرون إلى أن يعودوا إلى بيوتهم ويسعوا إلى مضاجعهم كارهين".

"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"

ويشير صاحب شعار "التعليم كالماء والهواء" إلى أن هذا حال الجميع في مصر مع الصيف، باستثناء  "المترفين الذين لا يكادون يحسون الصف حتى يعبروا البحر إلى حيث يحيون حياة أخرى، أو لا يكادون يحسون الصيف حتى يسرعون إلى ساحل البحر، فيحيون حياة خير منها ما نحن فيه من كسل وفتور، ومن تقصير وقصور".

ويلتمس طه حسين العذر بوضوح لمن لا يعملون في الصيف قائلا: "من ذا الذي يستطيع أن يكلف الناس أن يعملوا وهم عاجزون عن العمل، أو يكدوا وهم مصروفون عن الكد، والله – عز وجل – لا يكلف النفوس إلا وسعها، ولا يحمل الناس ما لا طاقة لهم به".

التعليقات